- عوامل الفشل الدراسي
يحاول ميشل لوبرو تفنيد أطروحة بورديو التي تجعل
من الثقافة المدرسية انتماءً صرفاً للطبقة المسيطرة، ويحاول في الوقت ذاته
تبرير الأشكال من منطلق جديد، واعتماداً على مصوغات ايكولوجية؛ أي بفعل
التقاء الأفراد مع الواقع الذي ينتج فيه بالضرورة من خلال مواقعهم، وهذه
اللقاءات تفرز وقائع نفسية. مواقع وانجذابات وتنافرات تشكل مجتمعة تنضديات
اجتماعية.
وتبعاً لهذه المقاربة، يحدد لوبرو الفشل الدراسي على
الشكل التالي: "إن كل فشل مهما كان صاحبه ومهما كان نوعه، يمثل بالضرورة
مساساً بصورة الشخص ذاته، غير أن الفشل الدراسي يميل إلى مضاعفة الخسائر،
وذلك لأسباب عدة، أهمها أن الفشل مساس بالأنوية الفردية للبالغ، وتزداد
خطورة الموقف عندما يتعلق الأمر بأطفال يوجدون في طور انبناء الشخصية؛ أي
في وضعية اللاتوازن من وجهة نظر نفسية". ويمضي ميشيل لوبروفي في تحديد
عوامل الفشل الدراسي تبعاً للوسط الايكولوجي للطفل، وهي:
1. المحيط
العام: ويمكن أن يكون من طبيعة مكانية (جغرافيا) أو زمانياً (تاريخياً)،
حيث أصبح من الثابت علمياً أن نوع التجمع السكاني للفرد يؤثر بالضرورة على
تطوراته واتجاهاته.
2. المحيط الخاص: إنه الفضاء المباشر الذي يتموقع
فيه الطفل، ويمكن الحديث هنا عن الوسط بأشكاله المختلفة: الأسرة، المدرسة،
الوسط المادي والفيزيقي.
3. تأثير الأفراد: باعتبار سلوكاتهم ومواقفهم
أثناء نسج علاقاتهم. إن شخصية الآباء خارج فعل ممارسة التربية تبقى حاسمة،
إنها محدد مهم في تطور شخصية الطفل.
ب- الثقافة الفرعية
تقوم
الفكرة الأساسية لهذا العامل على وجود ثقافة ضمنية من طبيعة شمولية تقف في
وجه الثقافة المكتوبة التي تروجها المدرسة، إنها لا تناقض فقط الثقافة
المدرسية المكتوبة، ولكن فعل المقاومة يبقى متبادلاً.
وتحيل أطروحة
مقاومة الثقافة الفرعية للثقافة المدرسية على النظرية الوظيفية كما نشأت
وتطورت مع بارسونز وميرتون وصولاً إلى ماسغرايف،13 فقد حصر هذا الأخير
وظيفة النظام التربوي في: الوظيفة المحافظة، الوظيفة التجديدية، الوظيفة
السياسية، وظيفة الانتقاء الاجتماعي، الوظيفة الاقتصادية.
غير أن
ما يهمنا هنا هو تلك الوظائف المرتبطة بالتجديد والانتقاء، وهي الوظائف
التي عبرها يتم تمرير الثقافة، غير أن ماسغرايف، وعلى الرغم من إدراجه ضمن
التيار الوظيفي، فإنه يطرح تساؤلاً خاصاً مفاده: هل ينقل النظام التربوي
ثقافة واحدة أم ثقافات؟ وكيف تنتج الثقافة؟ هل من المجتمع، أم من التاريخ،
أم من الدين، أم من عمليات التفاعل بين الأفراد الذين يجدون أنفسهم مضطرين
للدخول في مختلف أشكال الصراع أو التوافق؟ هل يكتسب الإنسان القيم
والعادات والتقاليد من مؤسسة المدرسة أم أنه ينتجها؟ وحين إنتاجها، هل
يكتفي بنسخها أم يضيف عليها ويعدلها؟ وهل تأتي الثقافة فقط من المدرسة أم
من القيم والعادات السائدة؟
تحيل هذه الأسئلة على إشكاليات شغلت الكثير من الباحثين، وأثارت على امتداد تاريخ الفلسفة والعلوم الإنسانية ردود فعل مختلفة.
إن
عملية تكوين الثقافة؛ سواء في شقها النظامي الذي تسهر عليه المؤسسات
الرسمية، أم في شقها الشعبي الذي ينبثق من تفاعل الأفراد مع محيطهم، تندرج
ضمن ما يمكن تسميته تفاعل الأفراد مع بيئتهم واستجاباتهم للحاجات المتجددة.
الثقافة
والمجتمع والتاريخ والمدرسة ومؤسسات الإعلام ووسائل الاتصال عناوين بارزة
لعلاقة جدلية تندرج فيها عمليات تكوين الشخصية الإنسانية في إطار علاقة
شرطية، لا تشكل فيها ثقافة المدرسة سوى لحظة، وعلى الرغم من فاعليتها،
فإنها تبقى مجرد لحظة من لحظات التكوين الثقافي.
ج- مقاومة المدرسة
في
مواجهتهم للمدرسة وإجباريتها، يختلف رد فعل الفئات الاجتماعية، حيث تتبنى
الطبقات العليا مواقف تمكنها من الاستفادة من وضعيتها، في حين تعمد
الطبقات الدنيا إلى مقاومة شديدة. ولتحليل هذه الوضعية، يستعير ميشيل
لوبرو مفاهيم علم النفس الاجتماعي، معتبراً بأنه "إذا اعتبرنا الطبقة
الشغيلة التي تسمى كذلك يدوية تتوفر على ثقافة فرعية داخل الثقافة الكلية
للمجتمع، فإن كونها يدوية يجعلها تطور بعض السلوكات والقيم والأحاسيس
الفنية والإيجابية، لكنها بالمقابل تحاول الانغلاق كغيرها من الثقافات
الأخرى".14
إن الميكانيزم السيكواجتماعي المفسر لذلك سهل الفهم حسب
لوبرو: "كل شيء سيكون على أحسن ما يرام إذا اكتفى أفراد ثقافة معينة
بتطوير الأنشطة ومواجهة المشاكل المرتبطة بهذه الثقافة، لكن للأسف! يقول
لوبرو، فإن الإنسان مطالب بمواجهة المشاكل التي تخص الإنسانية جمعاء".15
المدرسة
بلغة بورديو حقل وميدان للعب، يخضع لميزان القوى، حيث المهيمنون يسعون
باستمرار إلى احتكار التفوق، والمهيمن عليهم يستسلمون ويرضخون بنوع من
العفوية دون أن يعني ذلك نسيان حقيقة الوضع القائم على وجود مهيمنين.
التفكير
إذن في المدرسة باعتبارها حقلاً يعني على الصعيدين النظري والتطبيقي
اعتبارها فضاء لمختلف أنماط الإنتاج الفكري ومعطيات البنية الاجتماعية بكل
أبعادها الاقتصادية والثقافية والبيئية. وفي هذا السياق، شكلت أطروحات
بيير بورديو مع جون كلود باسرون تشريحاً جديداً للأنظمة التربوية من خلال
تبيان أهمية الموروث الثقافي والوضع المادي للطلاب في تحديد نسب النجاح
وانتشار عدم تكافؤ الفرص، فعلى الرغم من كل الشعارات التي يمكن رفعها حول
ديمقراطية المدرسة، وضمان التعليم للجميع، فإن ميكانيزمات النظام التربوي
تفضي إلى تشجيع الاستعدادات المسبقة لدى أبناء المدرسة والمنسجمة مع
توجهاتها. وفي هذا السياق، أفادت بحوث ميدانية أجراها الثنائي بورديو
وباسرون أن حظوظ أبناء الأطر العالية في فرنسا في ولوج الجامعة، تفوق
ثمانين مرة أبناء الفلاحين والأجراء والعمال.
د- انغلاق الوسط
إن
العوامل الرئيسية للفشل الدراسي -يقول لوبرو- تتمثل في انغلاق الوسط،
والتي تصادفنا أينما ذهبنا في مجتمع كمجتمعنا تهيمن فيه الثقافة المكتوبة،
وبالتالي فإن أي محاولة للوقوف ضدها يؤدي إلى الإقصاء والتهميش.
إن
الأسرة ضحية هذه الشروط ذات السمة الايكولوجية. تعيد إنتاج هذه الظروف
نفسها التي تؤثر بدورها على أطفالهم، فيضطر الأطفال إلى تبني قيم مماثلة
لقيم الآباء، بالتالي سيقومون باختيارات مماثلة، كذلك لقيم أبائهم، الأمر
الذي سيجعلهم يندمجون في النسيج الاجتماعي بالكيفية نفسها.
غير أن
هذه النتيجة -يقول لوبرو- ليست حتمية، حيث يمكن للأطفال الوقوع تحت
تأثيرات أخرى توجههم بطريقة مخالفة. إن الأطفال لا يرثون الوضع الاجتماعي
لآبائهم، ولا ثقافتهم، إنهم يتعرضون فقط للشروط نفسها التي تجعلهم يقومون
بالاختيارات نفسها، ونظرياً يمكنهم القيام باختيار آخر إذا كانوا يتوفرون
على قيم أخرى في حدود هامش الحركة التي يوفرها المجتمع. ومع ذلك، فإن
التأثير على الأطفال يتم داخل البيت ومع الأم أو الأب، حيث يبدو الانغلاق
أكثر وضوحاً.
والحاصل أن الفشل الدراسي ظاهرة إنسانية لا يمكن لأي
مقاربة أحادية البعد أن تدعي لنفسها القدرة على الإحاطة بجوانبها كافة،
وإذا كانت هذه الورقة قد ركزت على البعد الثقافي للظاهرة، فإنها تبقى
محكومة بالقصور. صحيح أن البعد الثقافي كما تقاربه مختلف النظريات
الصراعية يبقى مهماً إلا أنه ليس سوى معطى ضمن معطيات أخرى، والإلمام بها
يقتضي مقاربة تكاملية تستعير عتادها النظري التطبيقي من مختلف التخصصات.
عزيز مشواط
كاتب وباحث من المغرب
الهوامش
هذه المقالة كتبت خصيصاً لـ رؤى تربوية.
1
جماعة من المؤلفين (1998). معجم علوم التربية، مصطلحات البيداغوجيا
والديداكتيك، ط2، الدار البيضاء: منشورات عالم التربية مطبعة النجاح
الجديدة، ص81.
2 Miche Lobrot. EchecScolaireetCulture,Aquoisertl’école?ArmandColin Paris 1992.
3
جورج لاباساد، ورونيه لورد (1991). مقدمات علم الاجتماع، نقلاً عن كتاب في
التربية والأيديولوجية للدكتور شبل بدران، الدار البيضاء: مطبعة النجاح
الجديدة، ص55.
4 MichelLobrot. EchecScolaireRéactionPsychologique, Psychanalysemagazinenº14.
5 idem.
6 P. BourdieuetPasseron, LaReproduction. Ed.Minuitp19.
7 PhilipePerrenoud, StratificationSocio-culturelle, Réussitescolaire, Droz 1989.
8
يقوم التفسير الماركسي للاغتراب على تفسير ما يحدث للأفراد حين يغتربون عن
أعمالهم لأسباب موضوعية كامنة في علاقات الإنتاج ونسق العلاقات الطبقية،
ما يؤدي إلى انفصالهم عن العمل وإنتاجه. كما يؤدي في الوقت نفسه إلى
اغترابهم عن الطبيعة وعن ذواتهم، ومعنى ذلك أن العمل يصبح شيئاً خارجياً
عن العامل، وليس جزءاً من طبيعته، ما يولد لديه شعوراً بالبؤس وبعدم
الرضا، فلا يستطيع تنمية طاقته الفسيولوجية أو العقلية، ويفقد حريته
واستقلاله الذاتي، ويصبح ملكاً لغيره أو عبداً للأشياء المادية، يتصرف
أصحاب السلطة فيه تصرفهم في السلعة.
مأخوذ من كتاب سوسيولوجيا الثقافة،
المفاهيم والإشكاليات.. من الحداثة إلى العولمة، للدكتور عبد الغني عماد،
ط1، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، شباط/فبراير 2006، ص318.
9 PhilipePerrenoud, LaFabricationdel’ExcellenceScolaire: DuCurriculumauxPratiques d’Evaluation,Genève,Droz 1989.
10 idem.
11
PhilipePerrenoud,CultureScolaire,
CultureElitaire.http://www.unige.ch/fapse/SSE/teachers/perrenoud/php_main/php_1990/1990_03.html.
12 R. Boudon, L’InégalitédesChances, LaMobilitéSocialedanslesSociétés Indistruelles, ArmandColin 1973, p.7
13
ماسغرايف. وظائف النظام التربوي بين الثبات والتغيير، ترجمة حمزة الخليفي،
بحث نهاية السنة الخامسة، شعبة الفلسفة المدرسة العليا للأساتذة تطوان
2003- 2004، ص89.
14 MarcelVerret, LaConscienceOuvrière, Paris, Ed. Sociétécrocus 1988, p283.
15 MichelLobrot, EchecScolaireRéactionPsychologique, Psychanalysemagazinen/14.