يرتبط صلاح الحياة الاجتماعية
ارتباطا مباشرا بنظام العقوبة، فكل مؤسسة لابد من أن يكون فيها نظام يحدد
عقوبات المخالفين والمقصرين، ومن هنا سنّت كل الأمم قوانين للعقوبات، وهذه
العقوبات إما أن تكون جسدية وإما مالية، وإما معنوية.
وبالرغم من الجدل الدائر حول مسألة العقوبة الجسدية في المدارس بمراحلها
المختلفة، إلا أن التربويين يتفقون في أن استخدام أسلوب الضرب كأداة
تربوية أمر يجر معه الكثير من السلبيات التي تؤثر على التلميذ داخل الفصل
وخارجه، وتبقى لحظات الضرب المبرح التي يتعرض لها الطفل أثناء فترة
الدراسة عالقة دائما بذهنه مهما تقدم به العمر ومهما كثرت عليه مشاغل
الحياة وهمومها
وقد أدى أسلوب الضرب المبرح إلى تنفير الكثير من الطلاب، وخلق عندهم
تذمراً واسعاً، وأدى بالكثير من الطلاب إلى الهروب من المدرسة وعدم
الإقبال على التعلم.
كما أن صورة الضرب المبرح ومن يقوم به من المعلمين تبقى عالقة بالذهن مهما طالت السنون، ومهما مرت بالذاكرة من أحداث.
العقاب كيف و لماذا؟
الشيء المؤكد هو أن العقاب طريقة من طرائق الرقابة السلوكية، ومن أهم
أساليبه أسلوب التعزيز الإيجابي الذي يستخدم كمثير لتعديل السلوك المنحرف،
فكما أننا نكافأ على تحقيق النجاح في طفولتنا، فكذلك نتلقى العقاب مقابل
فشلنا، والعقاب ذو مدى متدرج القسوة، يتراوح بين مجرد استخدام كلمة «لا»
بنغمة معينة، إلى التوبيخ الشديد أو استخدام الصفعة، التي تعتبر من أقسى
أنواع العقاب. والعقاب كمعدل للسلوك يستخدم في المدارس كما يفعل المدرس
عندما يعاقب التلميذ بإخراجه من الفصل، أو يستخدم الضرب بالعصا (وهو أمر
غير تربوي على الإطلاق).
ويرى الدكتور الفن فروم، اختصاصي العلاج النفسي، أن ضرب الطفل سياسة انهزامية لأنه:
1- يجعل الطفل يخاف من ضاربه ويكرهه.
2- يعلم الطفل الطاعة العمياء بدلاً عن المناقشة والفهم والتقبل عن اقتناع.
3- الضرب في أحيان كثيرة يزيد الطفل عنادا.
المعلمون ماذا يقولون:
في استبيان أجري في أوساط المعلمين عن أنجح طرائق العقاب التي يعتقدها من
خلال تعامله اليومي مع الطلاب، أجاب 26% منهم أن الضرب هو أنجح طرائق عقاب
الطلاب، تلاه أسلوب خصم الدرجات الذي اتفق معه 23% ومعلوم أن الخصم
المقصود هنا سيكون من درجات أعمال السنة، فيما يرى
18% من المعلمين أن استدعاء ولي الأمر هو من أنجح طرائق العقاب المستخدمة
في المدارس، ثم يأتي الطرد من الفصل الذي اختاره 11% من الطلاب، و يؤمن 9
% من المعلمين أن أسلوب التشهير بالطالب داخل المدرسة هو الأمثل، أما
البقية ونسبتهم 12% فقد اختاروا وسائل عقاب أخرى، من أبرزها إفهام الطالب
خطأه أمام زملائه، والتوبيخ الشفهي.
وعن الشعور الذي ينتاب المعلمين بعد قيامهم بضرب طلابهم، يقول 11 % أنهم
يشعرون بالألم وعدم الرضا، و37 % يقولون: إنهم ينتابهم شعور بالندم، فيما
يقول: 21 % إنهم يحسون بالرضا، و3 % يشعرون بالخجل.
الضرب في أوروبا:
العقاب الجسدي في المدارس ظاهرة لا تنفرد بها الدول العربية وحدها، بل
يشكو منها تلاميذ أوروبا، وتنبه القائمون على التربية هنالك ومنذ زمن بعيد
لخطورة العقاب الجسدي والآثار النفسية التي تترتب عليه، وكانت فرنسا هي
السباقة في مجال سن القوانين التي تمنع ممارسة ذلك الأسلوب في مدارسها،
وينص قانون 1886م صراحة على منع العقاب الجسدي للطلاب، وأباح العقاب الذي
يكون في شكل: حرمان جزئي من الفسحة، أو الوقوف في الفصل أو التوبيخ أو خصم
الدرجات.
وكانت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان قد أصدرت مؤخرا قرارا يقضي بمنع
العقاب البدني في المدارس الأوروبية والاستعاضة عنه بأساليب تربوية أخرى.
وتنتهج المدارس المتقدمة أسلوب التشجيع المعنوي والمادي للطلاب المتفوقين
والمنضبطين سلوكيا، مما يدفع زملاءهم للاهتداء بطريقهم. ودرجت الكثير من
المدارس إلى تعيين مشرف أو اختصاصي للنشاط المدرسي تناط به مهمة إدخال
فلسفة تربوية تكسر حاجز الرقابة الأكاديمية وتضفي نوعا من المرح والتسلية،
الشيء الذي يقلل من أخطاء التلاميذ ويجعلهم أكثر انطلاقا واحتكاكا ببيئتهم
المدرسية وبالتالي يبعدهم عن ما يعرضهم للعقوبة أيا كان نوعها.
لمحات من عقاب طلاب العلم في التراث
نستعرض فيما يلي بعض النماذج والآراء حول فلسفة العقاب لدى بعض المربين القدامى:
أولا : القابسي
يحث القابسي المربي على اللجوء قبل الضرب إلى «العزل والتقريع بالكلام
الذي فيه التواعد من غير شتم ولا سب لعرض». والقابسي أقر الضرب عقوبة،
ولكنه أحاط ذلك بعدة شروط، ومن الشروط التي وضعها:
1- أن يوقع المعلم الضرب بقدر الاستعمال الواجب في ذلك الجرم.
2- أن يكون الضرب من واحدة إلى ثلاث، ويستأذن القائم بأمر الصبي في الزيادة إلى عشر ضربات.
3- أن يزداد على عشر ضربات إذا كان الصبي يناهز الاحتلام، سيئ الرعية، غليظ الخلق، ولا يريعه وقوع عشر ضربات عليه.
4- أن يقوم المعلم بضرب الصبيان بنفسه، ولا يترك هذا الأمر لأحد من الصبيان الذين تجري بينهم الحسية والمنازعة.
5- أن صفة الضرب ما يؤلم ولا يتعدى الألم إلى التأثير الشنيع أو الوهن المضر.
6- أن مكان الضرب في الرجلين «فهو آمن وأحمل للألم في سلامة» ويتجنب رأس الصبي إذ قد يوهن الدماغ أو تطرف العين.
7- أن آلة الضرب هي الدرة أو الفلقة، وينبغي أن يكون عود الدرة رطباً مأموناً.
ثانيا : محمد ن سحنون
قال محمد بن سحنون في كتابه آداب المعلمين في الضرب: «ولابأس أن يضربهم
على منافعهم ولا يجاوز بالأدب ثلاثاً إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا
آذى أحداً، ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالأدب عشرة. وأما على
قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثاً. قلت لِمَ قلت عشرة في أكثر الأدب في
غير القرآن وفي القرآن ثلاثة؟ فقال: لأن عشرة غاية الأرب، وكذلك سمعت
مالكاً يقول: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايضرب أحدكم أكثر
من عشرة أسواطٍ إلا في حد".
الثالث : الغزالي
يرى الغزالي إعطاء الفرصة للتلميذ لكي يصلح خطأه بنفسه، حتى يحترم نفسه
ويشعر بالنتيجة، ويرى مدحه وتشجيعه إذا قام بأعمال حميدة تستحق المكافأة
والمدح والتشجيع. والغزالي يؤمن بالضرب للتلميذ في حالة الضرورة. وكذلك
يرى ضرورة أن يعامل المربي كل طفل المعاملة التي تلائمه، وأن يبحث عن
الباعث الذي أدى إلى الخطأ، وأن يفرق بين الصغير والكبير في التأديب
والتهذيب. وكان الغزالي ضد الإسراع في معاقبة الطفل المخطئ، ويطالب
بإعطائه فرصة ليصلح خطأه بنفسه. وينادي الغزالي بتشجيع الطفل إذا كان
يستحق ذلك؛ لأن فيه إدخاله للسرور على النفس. حيث إن التوبيخ يؤدي إلى
الحرمان والخوف وقلة الثقة بالنفس.
رابعا : ابن القيم
يشير ابن القيم في كتابه الفروسية إلى أن شفقة المربي بتلاميذه لا تمنعه
من تأديبهم إذا دعت الضرورة إلى ذلك، ويفسر ابن القيم التشديد على الابن
بضربه على ترك الصلاة بعد بلوغه عشر سنوات؛ لأنه ازداد قوة وعقلاً
واحتمالاً للعبادات، ويضرب على تركه الصلاة كما أمر به نبينا [ وهذا ضرب
تأديب وتمرين، وعند بلوغ العشر يتجدد له حال أخرى يقوى فيها تمييزه
ومعرفته.
خامسا : الإمام أحمد بن حنبل
الإمام أحمد بن حنبل من أوسع الناس حلماً وأكثرهم رحمة ورأفة أقر الضرب إن
كان ثمة فائدة مرجوة من ورائه، فقد سئل رحمه الله عن ضرب الصبيان فقال:
«على قدر ذنوبهم ويتوقى بجهده الضرب وإن كان صغيراً لا يعقل لا يضربه».